أبناؤنا والتعليم عن بعد
النشأة والخصائص
في عام 2010، قرر البروفيسور جيم جروم (Jim Groom) إتاحة مساقه التعليمي “سرد القصص الرقمية” – الذي يدرسه بجامعة ماري واشنطن – وتدريسه على شبكة الإنترنت بدلا من تدريسه داخل قاعات المحاضرات المغلقة. لا شك أنه كان يتخوف من العواقب إذ أن طالبًا واحدًا داخل الغرفة الصفية التقليدية يستطيع -بطريقة ما- أن يخرج المحادثة عن مسارها متجها بها نحو الفوضى، ومن المؤكد أنك عندما تفتح المجال أمام العالم كله للمشاركة فإنك تغذي هذا الاحتمال وتضخّم هذا الخوف. ففي هذه الحالة يكون الوفاض خاويا تماما من السيطرة. وهناك أيضًا تساؤلات مثل: هل سيشارك الناس في هذه الدورة التعليمية؟ وإذا فعلوا،
هل سيساهمون بما هو مفيد؟ طرح البروفيسور دورته إذن على الإنترنت أمام العالم ودعا الناس للانضمام وقد فعلوا، قبل بداية الفصل الدراسي كُتِبَتْ أكثر من 200 مدونة ومنشور عن المساق. بدأ الطلاب بحل الواجبات وتبادل النتائج فيما بينهم. أنشأ أحد المشاركين محطة إذاعية عبر الإنترنت نشر عليها الملفات الصوتية للمساق. والذي لم يتوقعه البروفيسور أن يبدأ طلابه في التواصل مع بعضهم البعض ومع العالم بهذه الطرائق التي لم يتخيلها أبدًا.
“التعليم المفتوح عبر الإنترنت” الاتجاه الأكثر شيوعا في عالمنا هذا، في وقتنا هذا، في أزمتنا هذه. ولا شك أنه – لحداثته ولحداثة استعماله على هذا القدر من الشيوع والانتشار – يعتريه غموض واضح يربك كل المشاركين في العملية التعليمية: الطالب، المعلم، ولي الأمر، المدرسة، المستويات الإدارية والفنية المختلفة.
نود في هذا المقال أن نتعرف على هذا النمط التعليمي الجديد بهدف تحديد ما يمكن اكتسابه من إيجابياته وما يمكن درؤه من سلبياته.
يقصد بكلمة “التعليم المفتوح” ذلك التعليم المتاح للجميع والذي تكون مصادره في متناول أكبر عدد ممكن من الناس، فأهم خصائصه هو سهولة “الوصول” إليه دون حواجز زمانية أو مكانية، وبذلك يكون قابلًا لإعادة تصوره وإعادة تحريره، قابلا للتغيير والتطوير. كل ذلك لكونه “عبر الإنترنت” فتقنيات الويب 2.0 يمكنها توصيل المعلومات إلى الناس وربطهم ببعضهم البعض مما ينشأ “التعليم” الذي يؤدي إلى التأثير بفعالية على طريقة تفكير الناس ونمط حياتهم.
وللتعليم المفتوح عبر شبكة الإنترنت أنواع عدة منها التعليم عن بعد (Distance Education) والذي لجأت إليه عدة نظم تعليمية حول العالم لتواجه به مشكلة تعليق الدراسة احترازا بعد تفشي فيروس كورونا، ذلك لأن هذا النمط التعليمي الحديث تمثل فيه وسائل الاتصال والتواصل دورا أساسيا في التغلب على مشكلة المسافات البعيدة التي تفصل بين المعلم والمتعلم.
التعليم عن بعد: لماذا الآن
تجاوز الأمر مرحلة القبول والرفض وأصبح التعليم عن بعد حقيقة واقعة لمئات الملايين من الطلاب في جميع أنحاء العالم، يجبر النظم التعليمية في بعض المجتمعات على سرعة الاستجابة والتكيف معه. ففي تصريح عن المخاطر التي يواجهها التعليم في ظل انتشار فيروس كورونا (COVID-19 Coronavirus) أعلنت أودري أزولاي (Audrey Azoulay) المدير العام لليونسكو في السابع من مارس، أن “سرعة ومدى انتشار هذه الاضطرابات في النظم التعليمية لا مثيل لهما، وإذا طال أمدهما، فقد يهددان الحق في التعليم… فاعتبارًا من 4 مارس، أعلنت 22 دولة في ثلاث قارات مختلفة عن إغلاق المدارس، وقبل أسبوعين فقط كانت الصين هي الدولة الوحيدة التي تفرض عمليات إغلاق المدارس”.
إدارة التعليم عن بعد
تتنوع النظم التي تدير عملية التعليم عن بعد بين نظم إدارية LMS وهي التي تمكن المؤسسة التعليمية من إدارة السجلات وباقي الجوانب الإدارية، وتطبيقات تقدم المحتوى CMS بأشكاله المتنوعة “نصوص، صور، عروض تقديمية، فيديو، صوت…)، وتطبيقات اجتماعية للتفاعل عبر الشبكة كالفصول الافتراضية “Virtual Classroom” وقد تكون تطبيقات خاصة بالمؤسسة أو تطبيقات تجارية متاحة للجميع تنتقيها المؤسسة بناء على احتياجاتها الخاصة مثل google classroom, Microsoft teams وغير ذلك، ولعل النمط الأخير هو الأكثر شيوعا في منازلنا حاليا أقصد التطبيقات الاجتماعية والفصول الافتراضية.
وإذا ما أردنا وضع التعليم عن بعد في الميزان كي نعدد نقاط الاستفادة منه فنحرص عليها ونقاط الضعف فنتجنبها قدر الاستطاعة فلابد من استعراض خبرات من سبقونا في هذا النمط والاستئناس بما خلفوه من ملاحظات ومقترحات.
التعلم عن بعد : الفوائد
من خلال التعريف السابق للتعليم المفتوح عبر الإنترنت يتضح لنا أن أهم مميزاته تكمن في كونه متاحا على الإنترنت وليس حكرا على طلاب دون غيرهم ولا حكرا على زمان أو مكان أو خاصا بمصادر تعليمية محددة. فكل ذلك يوفر زيادة فرص الاتصال بين الطلبة فيما بينهم، وبين الطلبة والمدرسة، التعبير عن وجهات النظر المختلفة للطلاب، الإحساس بالمساواة، سهولة الوصول إلى المعلم في أوقات العمل الرسمية وغير الرسمية،
إمكان تكييف طريقة التدريس مما يساهم في مراعاة الفروق الفردية بين الطلبة وتقديم محتوى متنوع يلبي احتياجات كافة المتعلمين بأنماطهم المختلفة. وإلى جوار الدروس المتزامنة هناك دروس غير متزامنة تُتاح للطالب ولمن يشرفون على دراسته منزليا طوال اليوم وفي كل أيام الأسبوع فيتعلم وقتما يشاء. كما يقدم للمعلمين أدوات تحليل الدرجات والنتائج والاختبارات ووضع إحصائيات وإرسال ملفات وسجلات الطلاب إلى أولياء الأمور أو الهيئة الإدارية أو إلى قاعدة بيانات الكلية.
التحديات
أشار معظم المعلمين الذين مروا بخبرة التعليم عن بعد أن وتيرته أبطأ وقد تستغرق الدروس وقتًا أطول لإنجازها من طرف الطلاب، بالإضافة إلى عدم تجاوزه المستوى السطحي للتعليم أحيانا لأسباب عديدة منها:
- غياب توجيه المتعلمين لإبقائهم على المسار الصحيح والمشاركة والاطلاع، وقد يرجع ذلك لأسباب منها (انشغال الأسرة، وجود حواجز مثل اللغة أو الكفاءة في التكنولوجيا والمناهج الدراسية) والسؤال: كيف على المعلمين أو الإدارة أن يتعاملوا مع الطلاب الذين يعزفون عن المشاركة؟
- كثرة عوامل الإلهاء، فمصادر التعلم في هذا النمط هي وسائل لعب وتسلية وتواصل من الدرجة الأولى، فكيف نضمن بقاء الطالب في الدرس وعدم التسلل منه لمصادر اللعب والإلهاء هذه؟ وبالعودة للقياس على الصفوف التقليدية وفي دراسة عن التعلم بالحاسوب المحمول داخل الصف، اعترف 25% من الطلاب “عينة الدراسة” بأنهم يمارسون الألعاب على أجهزتهم خلال الفصل لمدة تتراوح من 25% إلى 75% من الوقت المدرسي. هذا في وجود معلم ومشرف وكادر إدارة مدرسية فكيف إذا كان الطالب منفردا بالجهاز؟
- هناك عدد آخر من النقاط التي تحتاج منا الحذر والحيطة، فالبعد عن الرقيب يتيح الفرصة للغش في الامتحانات أو التدريبات، ويتيح الفرصة للتنمر الإلكتروني، وضياع الوقت في الدردشات الإلكترونية غير الموثوقة.
كيف ينجح التعليم عن بعد
توفر المدرسة للطالب ما يعرف باسم منطقة التطور القريب Zone of proximal development، ويعرف فيغوتسكي (1896-1934) منطقة (ZPD) أنها المنطقة الأقرب والأهم في النمو النفسي للأطفال، والتي تشمل مجموعة واسعة من عملياتهم النفسية، والعاطفية، وهي باختصار أن للمتعلم – أثناء تعلم مهارةٍ ما – محيطا اجتماعيا فيه يشارك الحوار مع قرين يمتلك مستوى مهارة أعلى منه أو شخص أكبر مثل المعلم. ومن خلال هذا التفاعل الاجتماعي وبالتدريج يحدث نوع من النمو النفسي والعاطفي فيطور لديه القدرة على حل المشكلات بنحو مستقل وأداء المهام دون مساعدة. هذا يعني أن الطالب في التعلم عن بعد يفقد هذا المحيط الاجتماعي بتفاعلاته وعلى الأسرة والمعلم تعويض هذا الدور الاجتماعي. وكي نعوض هذه الفائدة الاجتماعية ولكي نطور هذا النمط التعليمي الجديد لابد من التكامل بين حلقات ثلاث: الطالب، الأسرة، والمعلم. ففي التعلم عن بعد يجب على الطلاب مواجهة عددٍ من التحديات والتغلب عليها قبل الشروع في الدراسة مثل: تحمل المسؤولية وامتلاك السيطرة على قواهم ورغباتهم ومهاراتهم واحتياجاتهم، وعليهم كذلك توضيح وتفسير ما تعلموه، والإبقاء على احترام الذات، وامتلاك أدبيات التعامل مع المحتوى وأدبيات النقاش وتبادل الآراء مع المعلمين والزملاء.
لإنجاح التعليم عن بعد
أيضًا يجب أن يستثمر المعلمون خبراتهم في تلبية حاجة الدارسين إلى دافعية عالية، ذلك لأن التوجه الذاتي يؤدي الدور الأهم في هذا النمط التعليمي حيث تضعف أدوات المتابعة والتوجيه الخارجي. وكذلك تزويد الدارسين بالتغذية الراجعة السريعة والمستمرة، وتشجيع إثارة النقاش بينهم. يحتاج الطلاب في التعليم عن البعد إلى مزيد من التركيز ليتحول تعلمهم من المستوى السطحي إلى مدخل المستوى الأعمق لذلك علينا: ترتيب الأولويات والتركيز على ما هو أهم، الربط بين الأفكار الجديدة والمعرفة القديمة، عرض أنشطة متنوعة على الطالب ليختار ما يناسبه منها، استخدام استراتيجيات تضع الطالب أمام نفسه وما أنجزه في الدرس.
للأسرة الدور الأكبر في التعليم عن بعد
حيث يخوض الطالب تجربة تعليمية باستخدام جهاز مصنف في ثقافته على أنه جهاز للعب والتسلية وهذا يؤدي إلى التعلق بهذه التجربة ومحاولة اكتشافها وعدم التخلي عنها لضمان البقاء على الأجهزة قدر المستطاع. و لكي تنجح هذه التجربة الجديدة فلابد من دعم الآباء من خلال توفير بيئة تعليمية مناسبة وتخصيص مساحة للتعلم مع توفير اللوازم التعليمية والتقنية (حاسوب – سماعات – الكتب المدرسية – أقلام – أوراق وما شابه).
في حال تعدد الأبناء فيمكن توزيع أماكن جلوسهم مع وجود أحد أفرد الأسرة معهم في المكان نفسه حفاظا على خصوصية كل فرد منهم ومراقبة لأدائهم التعليمي لأن المراقبة الذاتية لدى الطلاب غير مكتملة في أغلب الأحيان مما يصرفهم عن الدراسة إلى اللعب ومصادر الإلهاء الأخرى.
وبعيدا عن الحصص الدراسية، فلابد من إعطاء قيمة لما يقوم به الطالب كي يشعر بأن تعلمه إنجاز يقدر ويحترم. كذلك علينا تنظيم وقت الطالب بين اللعب والدراسة، ولتقليل وقت استعمال الشاشات الذكية ينبغي التركيز على الأنشطة البدنية وألعاب التسلية غير الإلكترونية لتعويض دور المدرسة في تفريغ الكثير من الطاقة عبر النشاط البدني.
وفي الأخير وإذا ما انضممنا إلى مصاف المتفائلين نجد أن ثمة منحة نستمدها من قلب هذه المحنة التي يمر بها الوضع الصحي عالميًا، فهي فرصة لأبنائنا ليصبحوا متعلمين ذاتيين على الإنترنت حيث تتيح لهم التأقلم مع هذا النمط الذي سيحتاجون إليه والذي سيستخدمونه في المستقبل القريب أكثر من التعليم الرسمي،
وكذلك ستكسبهم الاستقلالية والاعتماد على قدراتهم في التعليم، كما ستدربهم على قيم المواطنة الرقمية التي هي من متطلبات الثقافة والوعي في عصرنا الحديث.
إن كل اتجاه جديد إذن، يحتاج وقتا للتجربة والممارسة حتى يصل به أنصاره لمرحلة الإتقان؛ ومن أجل ذلك علينا التعامل مع التعلم عن بعد بجدية كتجربة مثمرة في هذا الظرف الطارئ وعلى المدى الطويل.